تحدي رمضان!
في 1982جاء رمضان مع بداية شهر جوان وهي الفترة التي يكشر فيها فصل الصيف عن أنيابه. كنا حينها نسكن زريبة (ڨربي). أذكر أن العطش كان يبدأ دوامه معنا حوالي العاشرة صباحا. ثم تمر الساعات 11 و 12 و 13 و 14 و 15 و 16 و 17 و 18 وكأنها سنوات ثم الساعة السابعة نبدأ تحضير أواني الإفطار في انتظار الأذان... المتاح من التكييف ساعتها والذي ندمنه وسط الحر هو تبليل قماش بالماء والنوم بداخله لكنه يجف بسرعة ويعاد تبليله مرة أخرى.
لم أمارس تقنية التبليل، وكنت اكتفي بالظلال الساخنة تحت أبنية من الخشب والكارطون لأنني وجدت أن العملية مؤذية للعظام. وكانت المسافة ليست قصيرة بين المنزل ومكان العمل وقطعها سيرا بعد منتصف النهار يتطلب قوة دفع كبيرة إضافة لمزاحمة الظلال المتقلصة للمنازل في جنبات الطريق... كان لحظة الفطور مناسبة للغاية لمعرفة الممرات التي يسلكها الماء البارد أثناء انطلاقه إلى المعدة، فتشعر حقا بمعنى ابتلت العروق. وكان تبديل تموضع السرير ليلا ضروريا للتخيف من حر الهواء الساخن الذي تدفنه الشمس بسطح التربة والذي يجعل الجسم يسخن من الأسفل كلما مكث طويلا فوق السرير.. كانت أجسامنا بعد الإفطار تبدو مخدرة لكثرة ما نتاول من السوائل الباردة.
كان الفطور له نكهة خاصة وبركة تجعله غنيا بطاقة روحية لا يمكن تفسيرها رغم قلة تنوعه.. التمر والماء او الحليب والشاي مشروب (الدفي) وهو خلطة غرائبية يقال انها مكونة من 44عشبة لها نكهة خاصة المذق وهو عبارة عن كوكتيل من الاعشاب يخلط مع أضعافه من الماء ويذاب فيه قطع من الثلج.. حساء (زنبوا)وهو دقيق القمح حسن المذاق يخلط مع بعض التوابل الخاصة به.
بعد التراويح يتم تناول العشاء وغالبا يكون طاجين جلبانة أو المكرونا مع حضور قوي لعائلة التوابل. ثم النوم والاستيقاظ للسحور ب(الكسكس) والشاي عند البعض.. ثم يبدأ يوم جديد مع خيوط الفجر الأولى تتخله ساعات نوم متقطعة الأوصال.. أتذكر هذه الأيام كلما رأيت احدهم يتحدث عن مصاعب الصوم في رمضان ويتحايل على الأطباء والفقهاء بالأسئلة من أجل الحصول على رخصة تخوله عدم الصوم. وهو يقضي جل يومه تحت الظلال والتكييف.
وإذا حان الإفطار رأيته محاطا بمائدة متنوعة الأصناف، من الاطعمة والعصائر والخبز والتمور والأشربة وأشياء أخرى لا يعرف تسميتها سوى من صنعوها. طبعا لا أقصد هنا الفقراء والذين يعدون أكثر بكثير من ألاغنياء، ولديهم من المحن المعيشية والغلاء ما ينسيهم تماما العلاقة بين جمال الطقس وسهولة الصيام. ومن المؤسف أن أغنياء بعض المناطق في عزلة عمرانية عن فقرائها.
ففي جانب من بعض المدن؛ تتراكم الاطعمة المتبقية بعد الإفطار بينما يحدث ما يشبه العجز في توفيرها في أطرافها الأخرى.. أما الحكومة؛ فنطلب منها أولا توفير الخدمات الماء والكهرباء ودعم المواد الأساسية للمواطنين البسطاء. ثم إعلان التوبة بصدق من الفساد ومحاربته بصرامة. أما الفقهاء فنطلب منهم التركيز أكثر على الحديث عن حرمة أكل المال العام وخطورة الظلم والوساطة والعنصرية. أما الأطباء؛ فنطلب منهم احترام أوقات دوامهم في المستشفيات العمومية والرحمة بالمرضى الفقراء.
أما رجال القانون فنتمنى منهم احترام القانون، ومن قادتهم الكبار الاكتفاء برواتبهم وصلاحياتهم التي يكفلها القانون. أما المثقفون والمناضلون فنطالبهم بالصدق والوضوح. أما معاشر المدونين فنطلب منهم الكف عن الغيبة والنميمة والغمر واللمز والكف عن أعراض الناس مع مواصلة النقد طبعا وقول الحق مع الصدق والتثبت وبعيدا عن تأثير القبلية والجهوية. أما من يظن نفسه صبورا ولديه الوقت فأدعوه للصوم بعيدا عن التكييف والعصائر والنوم وأنترنت 4G. ورمضان كريم وتقبل الله منا ومنكم صالح الاعمال.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم...



ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق