صباح اليوم وفي طريقي الى العمل ركبت سيارة أجرة منهكة میكانيكيا تئن أبوابها عند الإغلاق ويتطلب فتحها استخدام ثقل المنكب لدفع الباب بقوة. سائقها كان شيخا يكور على رأسه عمامة شاحبة اللون ومفتولة الطيات، قفا جبته السماوية تجلت عليها آثار خيوط متعرجة صنعتها إبرة حركتها أصابع اليد..
بعد الحذيث عن الدستور والاخذ والرد في الكلام أخبرني أنه أقلع عن التدخين 1993 بعيد انقلاب النظام على الشرعية وانه تقاعد سنة 2000بعد خروج المسيرات للمطالبة بدولة(عسكرية ماشي مدنية)بتسعة سنوات ويواصل الرجل حذيثه ويقول لم اعد افهم هذا الشعب بالامس يطالب بها عسكرية ماشي مدنية واليوم يريدها مدنية ماشي عسكرية.
لم قل شي ولكنه سألني عن رأيي في الموضوع قلت له ربما الجيل غير الجيل او الوضعية والحكام تختلف، ولكن حتما من كان يطالب بها دولة عسكرية هو نفسه الذي يريدها اليوم دولة مدنية لحاجة في نفس يعقوب. وردفت ربي يجيب الخير ان شاء الله.
فهمت من سرده أنه يتحلى ببعض الموضوعية وليس ذلك المتقاعد الذي يظهر دائما بطلا في القصص التي يسردها..
عمل صاحبنا بعد تقاعده سنة 2000سائقا لسيارة أجرة حسب قوله وما زال يجمع الركاب من أرصفة الطرقات. أخبرته أنني متشوق إلى سماع المزيد من ذكرياته مع الحياة. أعطاني رقمه مع ضحكة عريضة وبطيئة ورغبة عارمة في مواصلة الكلام في الذكريات. هناك مثل إفريقي يقول: "إذا مات شيخ احترقت مكتبة". أتمنى أن يحظى المتقاعدون بالتقدير المادي والمعنوي بدل عملية تقطير راتب المعاش التي تمارس عليهم
. مرة قابلت موظفا اقترب أخيرا من إكمال تشييد منزله الوحيد قبل تقاعده بثلاثة أعوام فقط، بعد عمر شاق من الكد وترميم الأمل، بينما الموظوفون السامون عندنا يتقاعدون ولديهم من الفلل والقصور والمدخرات ما تنوء بحمله بنوك الوطن. وجلهم يعود للوظائف من بوابة التعيين السياسي، فيوضع على مجلس إدارة أو في منصب استشاري مع تقاعد مريح وراتب مريح وعمل غير مضني. بينما صغار المتقاعدين يبدأون الكفاح من جديد من أجل لقمة العيش. كصاحبنا الذي تقاعد منذ 20عاما ومن أيامها وهو يعيل أسرته من قيادة تكسي متهالك في طرقات المدينة المتهالكة هي الأخرى...

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق